الجمعة، 16 أغسطس 2013

الحلقة الثالثة: كوني بردا وسلاما على إبراهيم

...تتمة
قاطعني فجأة مشيرا إلى أعلى، وقال بشكل صارم:
-         إن الوقت يمر بسرعة.
-    نعم، نعم...الوقت يمر مسرعا هنا. يا للعجب! في دنيا الزمن هناك من يقتتل لأحداث مر عليها خمسة عشر قرنا من الزمن. لازالوا يجترون كل العدوات الضاربة في التاريخ، يكررون نفس الشتائم، وبنفس النبرة. لأنهم ورثوها عن أجدادهم، عن فلان بن فلان سمع عن فلان، قال لفلان...وكأن التاريخ متوقف في ذاك المنعرج الدموي لا يتحرك مطلقا.
-    وأنا من الشاهدين أن التاريخ قبل الإنسان وبعده شهد طفرات كبرى، وقفزات كثيرة تخللت كل عناصر الكون: طبيعة، ثقافة ومجتمعا...
-    ألم يكن سيدي النوراني، في يوم من الأيام ركوب القمر من المحال، خرافة لا يقبلها عقل رزين؟ أما اليوم فصارت أغرب الأمور مسلمات، والمسلمات القديمة من أغرب الأمور وأسذجها. ولاغرابة أن التاريخ مفتوح الأفق، سيصل إلى أمور قد لا يتحملها عقلي الآني، ويتحملها عقل مستقبلي ببساطة. ستُتَجاوز هذه الحواجز الوهمية. وقد قيل أن الإنسان سينطلق على طريق الإنسانية عندما ينتقل من الصراع مع أخيه الإنسان إلى ملامسة حقائق الطبيعة والكون.
-         ألم تر أيها الكائن الدنيوي الزائل، أن بعض القفزات التاريخية قد فشلت فشلا ذريعا؟!
-    تلك هي حكمة التاريخ. من يزرع بذورا قديمة بمعاول صدئة في أرض مسممة لن يجني إلا الزوان. من يضع رجله في المستقبل ويهرب معه كل رديء من الماضي، لن يعيد إلا الماضي بشكل كاريكاتوري، ويضع المستقبل رهنا بين ثنايا الرداءة. مثلا العلم مشهود له بمصارعة كل العوائق التي تعترضه لينتقل إلى مرحلة جديدة عليا، يترك فيها العالم أخطاء غيره ويطور منجزاتهم،ليأتي عالم آخر يتجاوز كل شيء و يكسر أفق الانتظار، وهكذا دواليك، حتى قيل أن تاريخ العلم تاريخ أخطاء.
-         وماذا عن دولة الكادحين الجميلة؟!
-         ما أجملها من قصيدة! مضمون جميل لم يستطع أن يخلق شكله المناسب.
-         إعادة إنتاج الأخطاء والقيود القديمة.
-    رؤية جديدة للإنسان. تحتاج الى الكثير من العمل والإبداع. طريق يريدون للكادحين أن لا يحلموا به مرة أخرى. يريدون بعث كل التجارب المظلمة، الغارقة في التاريخ. يريدون نهضة كل الأحقاد القديمة النثنة. إلا تجربة غير بعيدة تحيي الأمل في مجتمع عادل، يعيد الإنسان إلى سكته الإنسانية. يكون الكادح فيها ربانا جديدا للتاريخ.
اقشعر بدني مرة أخرى ولم أسمع إلا طنينا مترددا في أذني. صفعة أخرى توقظني من سبات الأسئلة. معلنة نهاية الإمتحان العسير. ملاك السؤال يظهر جليا من غبش الظلام. مد يده نحوي وقال:
-    استيقظ أيها الإنسان. من نسبيتك الزائلة. وانطلق نحو المطلق النسبي. سأزيد أمتارا لمساحة قبرك. واستمع لموسيقى الكون الدائمة فيك. سأضيء قبرك بالقناديل الروحانية لأن كهرباءك الإيديسونية لا تصلح هنا، ما بعد الدنيا. سأطرد هذه  الأفاعي الوهمية البرزخية بعيدا عنك.لأنها من هناك لا غير.
-    نعم، شاهدتها في الصحراء في رحلاتنا الطفولية إلى موسم الحصاد في بلاد أجدادي الشعراء. والضخم منها لم أره إلا في بعض الأفلام الوثائقية.
حرك جناحيه الملائكيتين، انقشعت ضحكة أشبه بالرعد القاصف.  مد يده اللامتناهية إلا جراحي مضمدا، وقال:
-         تحمل وجودك هنا لبعض الوقت. وبعد مدة سأرسلك إلى جهة مجهولة لتختار مصيرك بيدك ســ...
قاطعته متلهفا لمعرفة مجاهيل المصير:
-    لا أتحمل الصبر هنا في هذا المكان البرزخي، أرسلني إلى أي مكان آخر، أرجوك إن كان الرجاء عندك مقبول، أرجوك...
التفت بسرعة إلي كأنه وجدني بجرم متلبسا:
-         صه...تقول أنك لا تتحمل الصبر؟! إذن أنت تكره...
-    لا تظن ذلك سيدي...أنا أمقت صبر الاستكانة  والذل والمهانة...لا غير. وقد قال شاعر مر من هنا، "اطلب العز في لظى***ودع الذل ولو كان في جنان الخلود".
-         حسن إذن، سأحلق بك حالا، أغمض عينيك وتشبث بجناحي استعدادا للطيران عبر هذا الملكوت الممتد.
حلقنا طويلا  في صمت روحاني رهيب إلى أن وصلنا مكانا خلابا لم أر مثله من قبل. كنت أحدسه عندما كنت أتنغم بصوت عبد الباسط عبد الصمد، في دكان حلاقة عمي البشير الطيب، المخلص.
هناك يمينا...جادة شاسعة، منتهية ببوابة عملاقة، قيل عنها جنة الأبرياء، فاز بها الأطفال، وكل من حمل من براءتهم روحها.
أمامي زقاق ضيق ملتو، منته بكهفين أحدهما فوق الآخر، متشابهين تماما. قيل أنهما يؤديان لنار حامية، وما أدراك ماهية، وبئس المصير. السفلي منهما، لكل من استبد بقوت الناس وعقولهم. لكل من جعل الناس ركعا هناك، ذلا واستعبادا. لكل من أحرق ورودا متفتحة هنا أو هناك، لكل من خنق العصافير في أقفاص من حديد. اليوم هم في أغلال، من نار اللهب، لا  تسمع غير آهاتهم  وأناتهم الأبدية. لم يعد ينفعهم لا مال ولا صولجان. فتاويهم التكفيرية التفت عليهم زمهريرا. أولئك الذين حولوا مقدسات الناس إلى تجارة بائرة.
                                                                                                   ...يتبع

الأربعاء، 7 أغسطس 2013

لحظة صمت الشاعرفيديو+ نص

لحظة صمت الشاعر

الزمن توقف عندي و قال :
عاشق بين أشجار الجوز متكئا يناجي:
أكلما أحببت امرأة
غيرت عنوانها !؟
أكلما أحببت مثقفة
مزقت دفاترها !؟
أكلما عشقت شاعرة
تطايرت استعاراتها !؟.
سأعود إلى حيث منبع الماء
سأعود إلى نهر يحيى إلى تين الجوز و السماء
تحت زرقتها كاليمامة، أحببت امرأة وردية اللون
جوزية حوزية لوزية العينين
اسمها حواء.
سأذوب بين عطرها البدوي كالحناء
أنت فلاحة عالمة
أنت شاعرة أبياتها الهواء و قافيتها الماء
أوزانها كل الحياة  و طيبوبة المزارعين
الفراعنة البابليون، رائحة النيل وعذب ماء الرافدين
أنتم الفلاحون أنتم العلماء
سأذوب بين ضفائرها و ألف يداي على خاصرتها الهيفاء
أنتم المزارعون أنتم العلماء
أنتم كل الدواء.
الزمن مر من جانبي مسلما و قال:
ثوب امرأة معطر بالفيح
واد من الحب و بحر من الثورة الأحمر
ربوة معشوشبة كصدر بحار مهذب
ثمر ناضج على شجر المشمش
شمس تحرق الكائنات الزائدة تحت الشعاع
عين تحرص أما تنتظر على عتبة الباب
باب كان مشعا بابنها الهادي
يطرق كل مساء بعد رسم المزرعة.
تنتظر كمحبوبة وجنتاها طماطم
عيناها مكحلتان بالرصاص و الأزيز
ما عادت تنظر أمام عينيها إلا اللظى
استشهاد، بيت عزاء أو خيمة للنصر
لاحت أرواحهم و انتشرت رائحة الليمون و النعناع.
الزمن توقف عندي و قال:
اللون الأحمر، لون الغروب لون الشروق
اللون الأحمر، لون الحياة لون العروق.
قبل جبهتي  و من وراء حجاب، ناداني:
أيها الشاعر: أتريد وقتا للأماني؟
قلت : تمنيت حتى غدت الأماني كل زماني
قال : كبِّر!!، قد يصمت الشاعر،
قد يختبئ وراء أكمات الأمل البعيد
كمحارب يراوغ القذائف
كشمس وراء البحر و كخيمة في الصحراء،
قد ينبعث من الرماد
كطائر الفينيق و يصنع اللفائف
و يغني بصوت  شجي كقيثارة الشرق
قد لا يكتب الكلمات
ولا يصدح بحزنه و بفرحه الطليق
و قد لا يقود الفيالق
و قد لا يشتم رائحة البارود في الخنادق
لكن تبقى المجازات هي البنادق
و الكناية لهب المجانق
ألم يكن في عبس، عنترَ يرعد لعبلة أمام المشانق
في زمان الشعر و السيف و الخيل و الخمر المعتق؟
هنا وقف الشاعر أمام الوقت، أمام ساعته، أمام الزمن:
صافحه بحرارة المنتصرين برغيفهم المبلل
أهديتني الأمل، أهديتني جواز الدهر ومنجاة سليمان للنمل، أهديتني الأمل
أهديتني الكلمات، وروح بروميثيوس ، وصبر أيوب و عزيمة الجمل
أهديتني الشعر، و عنترَ والسيف، فاجلس أيها الزمن اللا متوقف لنعقر الخمرَ
لعل امرؤ القيس يصير لنا نديما،
و ينهض من مضاجعة جارته تحت ظل  عسيب و يعقد الأمرََ
 ونتصعلك معا،و نكتب معا، للناس شعرا و نصنع ثورة.

عبد الرحيم لعرب

مارس 2008

الحلقة الثانية: كوني بردا وسلاما على إبراهيم

الحلقة الثانية:                        كوني بردا وسلاما على إبراهيم
              ....تتمة
تلمست ضحكته النورانية لأول مرة:
-         إذن ستجيب عن أسئلتي دون تردد وبلا مداورة. لماذا أنت هنا قبل أوانك المسطر في جدول قدرك الإلهي؟
-    سيدي البرزخي...أنا مثلك لا أعلم. ربما لأني أحب الحياة، أرسلوني إلى الحياة الأبدية. الأجدر أن تسأل من أرسلني إلى هنا؟
-    كل نفس مسؤولة في يومها. وأيضا مثلك كثيرون عبر التاريخ مروا من هنا. لماذا تتكرر نفس الأمور عبر هذا التاريخ؟ هل هي مأساة آدمية في مسرح يعيد تمثيل شخصياته دون توقف؟
-    هل عُينتَ في هذا المنصب لأنك فيلسوف؟ الأجدر بك أن تكون حكيما عوض أن تكون حارس قبور، تجادل هياكل عظمية أعطت كل ما بجعبتها في الحياة، ولم يتبق منها إلا الرميم؟...ههه
-    الأجدر بك أن تصمت الآن وأن لا تتدخل في ملكوت لا يعنيك؟...ربما لهذا أنهوا حياتك هناك، وأرسلوك لكي تزعجني في كوني المطلق.
-    حتى هنا تكثر الأسئلة...أما هناك فلا توجد غير الأسئلة. وأناس يقطعون الألسنة. وأنا لا أرى غير العقل يصنع كل شيء، وقيل أنه يصنع حتى الأشياء غير العقلانية. وحتى اللاوعي الذي قيل أنه جبل الجليد الذي يتربع أسفل العقل، ليس إلا اكتشافا عجيبا من اكتشافات العقل لذاته.
-         وهل نحن هنا من اكتشاف العقل أو اللاعقل؟
-         ربما من صنعهما.
-         لماذا تعرض نفسك للخطر؟
-         لأني أردت ان يكون العدل السائد في هذا الملكوت حقيقة هناك، لا ظلا هنا لرغبة مظلومة هناك.
-         كيف؟
-    هناك... خلطوا الأوراق وتحدثوا باسم من هنا. وجعلوا أنفسهم حراس الذين هنا. وهناك من نظر إليكم من خلالهم وسلم كل شيء لهم. حتى عقولهم وقوتهم اليومي. رغم أن هناك من قال لهم ناصحا: لا يمكن أن تفكر عوض غيرك كما لا يمكن أن تأكل عوضه". بل هناك من حرضهم قائلا: "دافعوا عن عقولكم كما لو أنكم تدافعون عن حصون مدينتكم". لكن ربما لأن غيرهم  يأكل مكانهم ، فغيرهم من سيفكر مكانهم أيضا. ولأن مدنهم بلا حصون لم يهبوا للدفاع عن عقولهم.
-         لماذا يحاسب الله الإنسان، ولا يحاسب الحيوانات، النباتات، والجوامد من الأشياء؟
-    لأن الإنسان مسؤول عن أعماله. لأنه الوحيد المميز بالعقل، أي الارادة والحرية والتفكير...هذا ما جعله الوحيد المحاسب بين ملايير هذه الكائنات الممتدة عبر هذا الكون الفسيح.
-         كل الكائنات تسبح بحمده.
-    لو أراد الله الإنسان فقط ناسكا، عابدا، مسبحا بحمده، لخلقه كباقي الكائنات الأخرى. لكنه أراده مفكرا، عاقلا، باحثا، مخترعا، عالما، مكتشفا، متميزا بمنتوجات عقله اللامحدودة. ولهذا قيل العمل عبادة، العلم عبادة، الاختراع عبادة، التفكير عبادة، الابداع عبادة، الفن عبادة،...
-         وقد قيل لهم أيضا أن الله لا يمكن أن يعطيكم شرائع مخالفة للعقل.
-         إن الذي قال ذلك حاربوه باسم هذا الملكوت أيضا، وأنت سيد العارفين بقصته الكاملة.
     لقد استغلوا نور هذا  الملكوت ببشاعة لا مثيل لها. وحطوا كل المساحيق الزائلة لاستمالة الناس، وتحريضهم على كل من وظف نور الملكوت نفسه المزروع في الإنسان، ألا وهو نور العقل.
-         لكن تفرقت هذه الشرائع إلى طوائف ومذاهب وفرق متناحرة لاتبقي ولا تذر!
-    هل خلق الله الشرائع لخدمة الإنسان أو العكس؟ لو طرح الإنسان هذا التساؤل  لفهم أن هذه الشرائع جاءت لخدمته وطمأنينته، لكنه للأسف جعلها جسرا للقتل مدعيا خدمة الله  ومنصبا نفسه مدافعا عن ملكوته اللانهائي.  العلة الأولى، الفاعل الأول، المحرك الأول ليس في حاجة لشريعة القتل للحفاظ على وجوده السرمدي.  
-         إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان.
-    اللهم ثبتنا عند السؤال... لقد أعلنوا الجهاد باسمكم ضد العلم والعلماء. من تمنطق تزندق. أي علم لا يساير حقائقهم البالية أضحى كفرا وإلحادا. يلوون ذراع العلم الذي لا يستكين للأجوبة الجاهزة ليبرروا أكاذيبهم وعجزهم المطلق الواضح للجميع. وكأنهم يريدون تثبيث قلة خزفية خرافية كبيرة على صهوة حصان جافل لا يكف عن الركض والقفز.
-         ههه...لا محالة ستنكسر تلك القلة المسكينة...

-         و ستتشظى الخرافة أيضا إلى قطع منثورة. لن يبقى منها غير أشياء على سبيل المجاز.
                                                                                                           ...يتبع