السبت، 12 يوليو 2014

لعبة الكاشكاش




كانت السماء ملبدة بالغيوم. الجو مليء بالعواصف التي تتلاحق في أنين جارف. هناك كانت تسكن عائلة مزارعة تتألف من أربعة إخوان. يحكى أن أبناءهم تفرقوا أيدي سبأ. أما الأباء فلا أثر لهم منذ نكبة بعيدة.
أكبرهم إسمه " آل حماد" و الثاني "حسني عبده" و الثالث "علال". ويقال أن أخاهم الرابع "ياسر" قد لازم الفراش مصابا بمرض خطير، وانقطعت أخباره في المستشفى البعيد.
أما الإخوان الثلاثة فكانت لعبتهم المفضلة والدائمة هي لعبة الغميضة" cache-cache " . يفنون النهار على طوله وأول الليل في هذه اللعبة المسلية. لا يغادرون حقلهم إلا لدافع ضروري جدا.
حدث مرة أن زارهم بعض الغرباء ذوي بشرة رومية ولهجة غريبة عن آذانهم. إنهم بشر من بلاد  بعيدة. رحب بهم الإخوان الثلاثة...تبادلوا الترحاب، الأسماء والأماكن الأصلية. وأجلسوهم بجانبهم.
"دجيمس" يقطن في بلاد بعيدة جدا، ما وراء البحار. أما "دافيد" و "إسحاق" فقد سافرا من بلاد لأخرى هروبا من ويلات الحرب. وقيل أن سبب اجتماعهم هو تجديد المودة والصداقة في أرض الميعاد. وكان الميعاد محددا في هذا الحقل المخضوضر المزهر كرما وزيتونا.
جلس هؤلاء الغرباء تحت شجرة وارفة الظل قرب آنية تستعمل في لعبة الغميضة. استمر الإخوة في اللعب. أما الغرباء فأخذوا يتأملون في هذه اللعبة المسلية، ويلاحظون حركاتهم وقوانين لعبتهم بدقة.
تقدم "دجيمس" نحو "آل حماد" وطلب منه أن يدع له دور المفتش. سمح له بذلك ولكن دون علم الآخرين. سار ليختبىء إلى جانب أخويه "حسني عبده" و"علال". لكنهما تجنباه واختبئا عنه حتى لا يراهما، ظانين أنه هو المفتش. هكذا وهما في حذر يتسللان من شجرة لأخرى، يحاولان الوصول إلى الآنية حتى يفوزا عليه.
فجأة وقعا في الفخ! إذ وجدا أنفسهما أمام مفتش جديد، لم يكن في الحسبان. ضرب " دجيمس" الآنية على الصخرة معلنا انكشافهما، وفشل محاولتهما في الوصول إلى الآنية. انزعج الأخوان من تصرف "آل حماد". و بدءا يشتمانه بأقذع السباب، حتى خرج من مخبئه مضطرا. فانكشف هو الآخر. حينها حميت وطيس المعركة بين الإخوة الثلاثة. وتحولت المشادات الكلامية إلى شجار حقيقي.
"دجيمس" تدخل في صورة المصلح ذات البين. اقترح عليهم للخروج من هذه البوتقة بدء اللعبة من جديد بإشراك صديقيه "دافيد" و "إسحاق". ولأن الأخ لا يطيق أخاه، اختاروا إدماج هذه العناصر الجديدة في اللعبة. و كل واحد منهم يود أن تستقر حجرة القرعة في يد أخيه ليتسنى له الإنتقام.
دارت الحجرة دورتها بين اللاعبين، وأخيرا استقرت عند "علال". فانطلقت حينها ضحكات ساخرة لآل حماد و حسني عبده. أما الغرباء فابتسموا هازئين، وشجعوهم على هذه الحماسة التي تجعل من الغميضة لعبة مسلية جميلة.
جلس علال تحت الشجرة لبدء اللعبة، أغمض عينيه وبدأ يعد إلى العشرة. انطلق الأخوان صحبة الثلاثي الغريب وسط خميلة البستان، يدوسون على المزروعات والنباتات. ولما ابتعدوا عن أنظاره، أعلن دجيمس خطته للفوز باللعبة. فانطلق دافيد وحسني عبده نحو مكان كثيف الأشجار. وسار دجيمس وإسحاق في الإتجاه الآخر، رفقة آل حماد المتحمس للوصول إلى الآنية.
سأله إسحاق عن حماسته المفرطة ضد أخيه. فأجابه متعصبا:"أريد أن يبقى ذاك السلوقي ضحية هذه اللعبة".
ضحك دجيمس وقال له ساخرا: "حسنا ..حسنا.. تقدم نحو صديقي إسحاق..."
مافتئ يدير وجهه لتجديد السلام حتى وجد نفسه مدرجا بالدماء، خائر القوى لم ينبس ببنت شفة. أراد أن يصرخ لكن بلا جدوى. لم ير أمامه إلا سحابة رمادية اللون أغشت بصره، ثم خر بلا حركة.
في الجهة الأخرى لكز دافيد ظهر حسن عبده بشكل مفاجئ، لتصدر منه صرخة مجلجلة أثارت انتباه علال،  الذي ركض نحو مصدر الصوت مسرعا للكشف عن وجوده وإعلان انتصاره.  لكنه فوجئ من الجهة الأخرى بدجيمس واسحاق اللذان قرعا الآنية بقوة على الشجرة. وأعلنا فشل علال في اللعبة. مما سيحتم عليه وفق قانونها إعادة الكرة من جديد.
أغمض علال عينيه مرة أخرى، والحقد يأكله تجاه أخويه. تطايرت من فمه أرقام غاضبة. فرح حسن عبده بدوره بهذه الخطة البارعة لهزيمة علال، و إبقائه في دوره السيزيفي. انطلق مع الغرباء الثلاثة في إرقال وتبغيل على الأعشاب اليانعة. والترب تتطاير من تحت حوافرهم التاتارية، خطوات يتطاير منها الحماس. اختبؤوا في خميلة وارفة الظل، استلقى على الأرض ليداري نفسه عن عيون علال المتربص به. فجأة ارتمى عليه اسحاق ودجيمس، وألقيا عليه بكلكلهما، وبطعنة غادرة من دافيد خر صريعا مدرجا بالدماء كظبي معزول بين سرب من الكلاب المتوحشة.
تقدم دجيمس نحو علال، مبتسما كثعلب في زي الواعظين. و قال له : "لا تتغاضى عن رؤيتي.. أعرف جيدا أنك ترغب في توريط إخوانك..لا بأس.. هناك طريقة أخرى، دعني ألعب دورك، انطلق أنت للتمتع بدورك بهذه اللعبة الجميلة، نكاية فيهم."
انطلق علال كالسهم لاحتضان الغريبين ومباغثة أخويه. ليجدهما تحت أقدامهما جثتين هامدتين. تذكر حينها أفلام "الكوبوي". الأخوان هنود حمر ظلمهم المخرج. صورهم همجا متوحشين لا يستحقون الحياة ولو في شهر أبريل. الغريبان "الكوبوي" أبطال منقذون للبشرية من وحوش آدمية، موعودون بأرض جديدة. لم يصدق ما رأته عيناه. أحس بقشعريرة باردة ممزوجة بصعقة كهربائية ذكرته بطفولته المريضة.
 حاول أن يتراجع إلى الخلف. حاول أن يدير جسده بسرعة لولبية كاملة. عجز كل العجز، كأن الأرض تشبثت بقدميه، تقبلهما، تتمسك بتلابيبه كي لا يفر ويتركها وحيدة مع الغرباء. بسرعة الشبح أو الميراج وقف وراءه دجيمس. ربما قرأ أفكاره قبل ورودها إلى ذاكرته. ربما يملك قدرة الحدس العنكبوتي أو قمرا صناعيا يراقب بلا رقيب...
ضحك دجيمس ساخرا، مربتا على كتفيه: " لا تخف يا علال، اسحاق و دافيد رجلان مسالمان، طيبان إلى درجة لا تتصور...أما أخويك فأنت أكثر الناس تود التخلص منهما... ألم يتشفيا في هزيمتك، ويسخرا من فشلك في لعبة صغيرة... إنهما لا يستحقان اللعب معك...لا يستحقان هذا الظل وهذه الأرض الندية التي أمامك..."
دخلت هذه الكلمات مع أذني علال باردة أو دافئة، اختلطت عليه الأحاسيس. كيف لا؟؟ ودجيمس أعلن السلام الدائم. اطمأن لكلماته المعسولة. التفت ليعانق اسحاق و دافيد. فجأة انقلبت كلمات الدفء و البرد إلى ألم جارف في أمعائه. الدم ينزف بلا توقف من فمه. عيناه تنظر إلى أشجار الزيتون والكرم والرمان، تتقلص أمامه مغشية بظلال الموت الزؤام. تذكر حكمة كليلة ودمنة ، قصة الثور الأبيض، التي حكتها لهم جدتهم وهم صغارا، وتعلموها في المدارس وهم كبارا. ترددت قربه ضحكاتهم المتقطعة و كلامهم الذي لن يفهمه أهل الجنة. تذكر شقاوة الطفولة وبراءتها حين كان الكبار يستدرجون الصغار بقطع الحلوى. تذكر ابن بلدته محمود الذي كان يتحدث عن أسطورة أناس يبحثون في أشلاء وطنهم عن وطن. وعلت وجهه ابتسامة أخيرة وخر ساقطا على صدره، بصوت خافت قد لا تسمعه إلا الأشجار والعصافير والتراب، ربما كما قال محمود هو الوطن حقيبة، أو ربما هو وطن مسافر حتما سيعود.

الأحد، 10 نوفمبر 2013



قال لي صديقي : " لولا الدولة لافترس بعضنا بعضا. اتفق كليا مع نظرية توماس هوبز".
أجبتـــــــــــــــــــــه: " لكن لماذا ترتكب أبشع المجازر وحروب مفترسة من أجل حمايتها؟!!. لم أسمع يوما أن أسدا أو ضبعا افترس  أكثر من 30 مليون دابة.
ثم قال لي مرة أخرى: " لولا الدين لما استطعنا حماية أنفسنا من عدوانيتنا المرعبة".
فأجبتـــــــــــــــــــه: " لكن لماذا ترتكب أهول المجازر باسم الدين؟!!

الأحد، 6 أكتوبر 2013

الشاعر أمام محكمة عسكرية



قال القاضي
أ تحمل بندقية؟
قلت: لا... لا... لا
لا تقتل الشعر في أحشائي
فأنا لي أمنية...
قال: شعرك وسيفك عنتر
قلت: كيف يناطح الشمس القمر؟
غضب مني ولاح وجه أصفر
قلت: هل الكلم يرفع علما إذا انتصر؟
حينها ضرب بالمطرقة
وقال هذا هو الإثم أكـــبر!
قلت: أكلماتي رصاصات مدوية؟!
قال:هي طائشة، تقتل خمسا تحيي مئة
حينها وجدتني وراء القضبان
بتهمة التسلح! !
                                                                      ع الرحيم لعرب 1999



أبو ذر الغفاري على أبواب منازلنا



محدقا يسري ، يتأمل جنبات الأحياء
كم من تفاصيل الكون
لم نعرفها بعد؟
كم من تفاعيل الشعر
لم ننظمها بعد؟
كم من طلاسيم السحر
لم نحلها بعد؟
كم من تراتيل النصر
لم نتنغمها بعد؟
كم من تجاعيد الوقت
لم نحرثها بعد؟
كم من سؤال لم نطرحه بعد؟
أجابني بعينيه المتربتين
و قدميه المشققتين
أ لم تمزق حجاب الكون لترى؟
أبا ذر يجوب أحياء الصفيح
يقول: و الله لأعجب لأناس
لا يجدون كسرة خبز في بيتهم
فلا يخرجون للناس شاهرين سيوفهم؟؟
أ لم تقطع عباب الشعر لتسمع؟
ن
َظْم العصاة يقول:
قفا نبكي على برلمان
غدا فينا سيركا بيزنطية الألوان!
ألم تكسر زجاج الصناديق ليشهر المهلهل سيفه
فاضحا لواط القبائل؟
و بحثهم عن أنبياء بلا سراويل؟
كم سؤال طرحت و لم يجب !
عندما كان ذاهبا إلى الحصاد مسحت جبهته المتجعدة
كأرض كنعانية الأهواء ولم يجب!
قرأت في عينيه و في شارة منجله المنحني:
كم من الآهات لم تفهم بعد؟
************
مقطب الجبين يقطع عباب الهواء
سألته: أ لم تقرأ عن الانتخابات و الأحزاب؟
قال : أ لم تكتوي بالأسعار و شرب الأنخاب؟
سألته: أ لم تسمع بالصناديق و الأحباب؟
قال: أ لم تسمع عن الأجور و الأتعاب؟
سألته : أ لا تؤمن بالبلدية، ألا تدعو ربك تحت قبة البرلمان؟
قال: أ لا ت
ُسْلِم بالمنجل، و ذود السنان عن أشجار السنديان؟
سألته: أ تكفر بالوطن و السلطان؟
قال:كفرت بالألوان،كفرت بالأعيان،كفرت بالتيجان.
صلب اليدين قال، فصيح اللسان قال:
كم من الأصوات لم تسمع بعد؟
سألته: ألا تصوت، ألا تلبي نداء الحملات و التلفاز؟
فتح فاه، و بدأ يصوت :
واه...واه...واه...واه...واه...واه...
حامل السنان قال:
كم من الأصوات لم تُسمع بعد؟
كم من الخطابات الزائفة لم تُقطّ
ٓع بعد؟
كم من المنابر الخشبية لم تُكسر بعد؟
كم من صل السيوف لم تُقعقع بعد؟
كم من الطبول لم تُقرع بعد؟
كم من الصواعق لم تُرعد بعد؟
صقر العينين قال:
كم من الأصوات ستسمع غ
َدْ.
والأهازيج ستغنى ،والرمح زاد ورفيق وي
َدْ
.
عبد الرحيم لعرب
ماي
2007

المتنبي على أبواب حيفا أو ربما مضرب عن الطعام مع الأسرى الفلسطينيين


عشنا على الذكريات
نمنا على أخبار الموتى
صحونا على صناع الحياة
ا
ِبق كقبضة بدوي تبني الرايات
من جراح الطريق الطويل...الطويل...الطويل
من هزات الدرب و انقلاب السياسة على التضحيات.
يا لشياطين تعانق النيازك
النور ثمرة تنضج بعد الظلمة الحالكة
الصوف يغزل من الأشجار الشائكة
ا
ُصمد خلف الجراح المثخنة
ا
ُصمد خلف المتراس،و الخندق و القلوب المحصنة
ا
ُصمد أمام زحف الفاشست ، تحت الهيجاء ...أمام المقصلة
ا
ُصمد كفنيق الشهداء ،كأعصاب المعطي، كعروق بنعيسى،مروة
كدمه الساخن المتدفق على أوراقه، و شظايا لحم على المِقلمة
فيروزية الصوت تغرس الرايات الحمر على خرائب ستالينغراد،الم
َعْلَمَة
لتغني بأوتار الشمس:
النازيون لن يمروا، مليون شهيد تلو المليون
الخندق تلو الخندق، همجية التتار تتطاير و الدم فوق العمائم
لن يمروا، لن يمروا، نتساقط سنبلة، سنبلة،
نحمي زيتوننا، كرمة التاريخ، أغصان التين،جريد الشهداء
من كل الثعالب النازية ، من فيالق الهاغاناه،
ضعوا في فم كل "هينكل" قنبلة، قنبلة.
فليتحالفوا ما شاءوا مع الإمبراطور قيصر،
مع سدنة القبور،نقاء العرق، ليشربوا نخبهم في البيت الأصفر
لن يمروا...فلسطيني هذا الورد الأحمر
روما فيروزية الصوت ،كم أنت خارقة رغم الكمائم
فيروزية الصوت رغم هدير الطائرات،ناصعة رغم الغمائم
ا
ُصمد خلف لحنها ، خلف بريق عينيها،من رحمها يولد الميلاد
قاوم تحت سلخ الجرمان، أصمد تحت فلق الجلاد
فظهورنا دبغتها الهزائم
ا
ُصمد رغم كيد المنجمين لا تصدق وإن كذبوا
فعيوننا صقلتها النمائم.

رثاء الفرس الأخير للمتنبي



صامدا يخطو قاطعا موج الأنواء
إن رحلت فلن يحبك أحد
لا ترحل فلن يُُه
ٓد أُحد
لملم جراحك الغائرة
لا ترحل، فلن يهواك أحد
خذ طريقك و عصافيرك الطائرة
و انشد أغنية الجماهير الثائرة
غن وارقص
دق
َّ بارودتك
تذكر آهة الشهيد الصمد
ا
ِبق كعيني طفل يبحث عن حليب أمه
في ثدي جفت بأرض بغداد
ا
ِبق كفرساوي يصنع الحياة
من ضوء السهاد
ا
ِبق كسجين كتبت على جسده
قصائد الحرية كسجاد.

أوراق المتنبي الأخيرة أو احتضار أمام قاتله


حزينا يمشي مناجيا سواد الليلة الليلاء
إن كنت صادقا في هذا الزمن الغوغائي
فلن يهواك أحد
خذ عصافيرك و أشجارك و ارحل إلى الصحراء
ا
ِقطع لسانك و اطمره في البيداء
حتى لا يسمعك أحد
إن كنت بروميتيوس هذا الزمن الحربائي
فستسخر منك كلاب البوليس و إلاهات النار
خذ قلبك الثائر و ارحل إلى القفار
و ادفن عزك في الرمداء
و اقتلع عينيك كي لا تراهم يرونك
تتمرغ في رماد العذراء.